تصف أوري جولدنبرج واقعًا منقسمًا في غزة؛ واقعين يسيران في آن واحد، ويتصادمان في كل ساعة. في الواقع الأول، الذي يفرض نفسه على الأرض، لا يظهر أي أثر لوقف إطلاق النار. يواصل الجيش الإسرائيلي تنفيذ الضربات والاقتحامات والهدم كما يشاء، مستخدمًا الطائرات والمسيّرات والقناصة لقتل الفلسطينيين، صغارًا وكبارًا، دون استثناء.

تشير مجلة نيولاينز إلى أنّ إسرائيل تبرّر عملياتها بذريعتين: “انتهاك وقف إطلاق النار” و“تدمير حماس”. وتطلق القوات النار على أي فلسطيني يُعثر عليه في الجهة “الإسرائيلية” من الخط الأصفر، الخط الذي يشطر القطاع نصفين. وتُظهر الإحصاءات أنّ قوات الاحتلال قتلت أكثر من مئتي فلسطيني منذ إعلان وقف إطلاق النار، بينهم أكثر من مئة في يوم واحد بعد اتهام فلسطيني بعبور الخط. وترى إسرائيل أنّ لها صلاحية قتل العدد الذي تراه مناسبًا لتحقيق هدفها

 

بين تلاشي نفوذ إسرائيل وصعود الهيمنة الأميركية

يفقد النفوذ الإسرائيلي قوته تدريجيًا في “الكون الموازي الثاني” حسب وصف الكاتب. تُصبح إسرائيل عبئًا سياسيًا على أقرب حلفائها، حتى لدى ترامب نفسه الذي يواجه انتقادات بسبب دعمه لإسرائيل بما يخالف القوانين الأميركية. ورغم استمرار الجيش الإسرائيلي في إطلاق النار على الفلسطينيين وهدم ما تبقى من المباني، إلا أنّ تأثير هذه الأفعال في تحديد مستقبل غزة يبدو هامشيًا.

يبرز النفوذ الأميركي بوضوح عبر إنشاء القيادة المركزية الأميركية (سنتكوم) مركزًا للتنسيق المدني العسكري (CMCC) في كريات جات داخل إسرائيل، على مقربة من حدود غزة. يختص هذا المركز بإدارة “جهود الاستقرار وتنسيق المساعدات الإنسانية”، وهي عبارات تكشف، بمجرد قراءتها، انتقال زمام المبادرة من إسرائيل إلى الولايات المتحدة.

ترفض إسرائيل عادة أي شكل من أشكال تدويل الصراع، لأن الوجود الدولي يفضح واقع الاحتلال ويقوّض خطاب “الطبيعية” الذي تحرص عليه المؤسسة الإسرائيلية. لكن إقامة هذا المركز تعلن — دون ضجيج — بداية مرحلة مختلفة، مرحلة تُفرغ العقيدة العسكرية الإسرائيلية الجديدة من معناها؛ تلك العقيدة التي تنص، وفق مصادر عبرية، على “ضرب أي تهديد في مراحله الأولى بغضّ النظر عن دوافعه”. وجود قوات دولية يجعل هذا النهج مستحيلًا.

 

تراجع السيطرة وتفاقم الارتباك داخل إسرائيل

يكشف ملف مجاهدي حماس العالقين تحت أنفاق رفح حجم التخبط الإسرائيلي. تتفاوض حماس على خروج مقاتليها مقابل جثمان الجندي الإسرائيلي هدار جولدن، بينما تتضارب تصريحات الجيش حول مكان الجثمان. وتفيد تسريبات أنّ واشنطن تضغط لمنح المقاتلين ممرًا آمنًا. تظهر هذه التفاصيل حالة الاضطراب، إذ لم يكن طبيعياً في الماضي القريب أن تتعامل إسرائيل بهذا الشكل مع مقاتلين تصفهم بأنهم “أعداء وجوديون”.

تستمر إسرائيل مع ذلك باستخدام آخر أدواتها المتاحة: القنص عند الخط الأصفر، الهدم، القصف المسيّر، ومنع دخول المساعدات. لكن غولدنبرغ يوضح أنّ هذه الأدوات العسكرية لا تُغيّر المسار السياسي. كل ما بوسع الجيش فعله الآن هو إعاقة التوجه الدولي نحو تشكيل “قوة استقرار دولية”، تعمل دول عدة على صياغتها لعرضها على مجلس الأمن.

وفي محاولة يائسة لاستعادة السيطرة السردية، بدأت إسرائيل في إدخال صحفيين أجانب ضمن جولات منظمة تخضع لمرافقة الجيش. كما تدفع باتجاه حملات “هاسبرا” رقمية تعتمد أدوات الذكاء الاصطناعي. ورغم ذلك، تشير وسائل الإعلام الإسرائيلية نفسها إلى توقع “كارثة إعلامية كبرى” بمجرد انكشاف حجم الدمار والخسائر المدنية.

 

مستقبل بلا سيادة إسرائيلية… وفراغ يبتلع كل شيء

ترجّح تحليلات عدة أنّ النفوذ الإسرائيلي على غزة يتراجع سريعًا، بينما تتزايد مؤشرات أن واشنطن تُعيد رسم حدود الدور الإسرائيلي. تؤكد مصادر دبلوماسية أنّ قطر وتركيا باتتا تسبقان نتنياهو في التواصل مع ترامب حول الملف، وأنّ الرئيس الأميركي — رغم مودته لإسرائيل — لا يرغب في توفير “صك مطلق” للجيش الإسرائيلي.

لا يظهر أنّ إسرائيل تسعى إلى ضم غزة أو استيطانها؛ ما يهم الإسرائيليين الآن هو الانغماس في صراعاتهم الداخلية: محاكمات، خلافات حزبية، نزاعات حول القضاء. ويبدو أنّ مستقبل غزة يتشكل خارج أيديهم، بينما تركت الحرب فراغًا سياسيًا وإنسانيًا عميقًا لا يستطيع الاحتلال ملأه.

ينهي الكاتب تأملاته بالإشارة إلى “كونين” متوازيين: في الأول، يستمر القتل بلا رادع فعلي. في الثاني، تتهاوى سلطة إسرائيل، ويترسخ نفوذ أميركي ودولي جديد يرسم شكل غزة المقبلة، بينما ينصرف المجتمع الإسرائيلي إلى شؤونه الداخلية، معتبرًا أنّ القضية انتهت بمجرد استعادة آخر جثة رهينة.

يبقى مستقبل غزة مفتوحًا على واقع يصنعه الآخرون، فيما يواصل أهلها دفع الثمن الأكبر.

 

https://newlinesmag.com/argument/the-shape-of-gazas-future/